طه عبد الرحمان يكتب حول بؤس المثقف الحداثي المقلد

بؤس المثقف الحداثي المقلد


 إن بؤس المثقف الحداثي المقلد بؤسان (بؤس ورثه) و(بؤس كسبته يده) إذ اختار العبودية الفكرية التي ألزمته بطقوسية مخصوصة فاجتمع له بؤس الأصل وبؤس النقل ، وبلغ به حد اليأس والقنوط فبقي ساقطا في التعبد لفكر غيره. 


 وأسوء اعتقاد يجره على الحداثي انقلابُ عقله هو الاعتقاد بأن للحداثة روحيات من جنسها أي روحيات دنيوية مؤسسة على انفصال الأخلاق عن الدين. 

 الآفات الثلاث لاتجاهات العقل المقلد: (١) انقلاب العقل وطلب روحانيات الحداثة: وقد ذهب المقلدة جرياً على طقوسهم في التقليد إلى تلقف القول أن في الحداثة روحيات كما لو أنها الحق المبين، وأخذ يدعو إليها كأنها من بنات عقله، مع أن أول النظر –لولا جمود عقله- يدله على أن حمل الروحيات على الحداثة هو صريح التناقض. 

 وليس ينفع المقلدة الحديث عن حداثة ذات روحيات مقارنة، وحداثة ذات روحيات مفارقة.. لأنه لا يرفع التناقض، لأن الروحيات شأن آخر، إلا أن يفرق بين حداثة متدهرة وحداثة متدينة، أو حداثة مجردة وحداثة مؤيدة. ولكن يأس المقلدة جعلهم لا يتصورون طريقاً آخر للإبداع والنهوض، فبقي حالهم على متابعة معبودهم في استعمال "روحيات الحداثة" وما دروا أنها مطابقة للوجدانيات والاعتقادات، وبهذا فهي تتسع للتدين والتدهر.

 ومن المفارقات أن لا تجد المقلدة يلتفتون إلى أن مفكري الحداثة لا يزالون يقتبسون من الدين مفاهيمهم حتى بلغوا حد أن يستعيروا أخص مفهوم وهو الروحيات. (٢) انتكاس العقل ونبذ روحيات الحداثة: يتجلى انتكاس عقل المقلد في كونه استبدل الروحانيات السيادية مكان روحياته الائتمانية، فقام بقلب الأمور، وجعل الأعلى أسفل، ولم يسأل نفسه عن مشروعية فعله، ذلك لأنه سيتعين عليه وقتها أن يكتشف التناقض الصارخ الذي وقع فيه، وسيتحتم عليه تعريف "الروحي" فيكون بين خيارين كلاهما غير متسق:

 - فإما أن يعرف بما هو نسبي أو تاريخي أو مادي أو جسدي فيتناقض مقتضى الأمر لأن الروحي متجاوز.

- وإما أن يعرفه بما هو مطلق ولا متناه أو باقٍ.. فيتناقض ما ارتضاه لنفسه لأنها صفات الروحية الائتمانية التي ألقاها خلف ظهره. ولكنه ينتكس ويصر على حمل الروحي على صنو الجسدي فيقع في فساد التصور ، ذلك لأن لفظ "روحي" له لوازم من استعمالين أساسيين: 

(أ‌) "الروحي" بمعنى "العلوي" في مقابل "الجسدي" بمعنى "السفلي".

 (ب‌) "الروحي" بمعنى "الباطن" في مقابل "الجسدي" بمعنى "الظاهر". ولا يخفى أن المقلد الحداثي حينما يسوي في الرتبة بين الروحي والجسدي إنما يُنزل الجسدي منزلة الروحي، أو يُنزل الروحي منزلة الجسدي..! وحتى لو سلمنا بوجود تفاعل بين الروحي والجسدي، فلا يلزم تساوي الرتبة، لأن مقتضى الروحي أن يُحفظ سموه، ومقتضى الجسدي أن يُحفظ دنوه.

 التداخل بين انقلاب العقل وانتكاسه: ويتجلى هذا في تحويله المفاهيم العمودية إلى مفاهيم أفقية دهرية، وهذا النقل لم ينفي آثارها الدينية التي تبقى تعمل في النفس، ويغاير أهل الحداثة فعل المقلد من وجه أنهم لم يتقلبوا عمودياً ولا أفقياً، فبقوا متسقين مع حداثتهم، أما المقلد فلا تقلب أفقياً، لأنه مقلد وهم مبدعة..! ولا عمودياً لأنه متخل عن تراثه وهم متقلبون بتراثهم. وفي النهاية يورث المقلد نفسَه عقلاً مقلوباً منكوساً ميؤوساً. 

والحق أنه ما من سبيل لدفع الآفات المجتمعية والعثرات التاريخية، إلا بإنشاء إنسان جديد ينبذ التقليد نبذاً كلياً.

 ونختم بالقول: إن ظلم المقلدين أعظم من مفكري الحداثة* لأسباب: (١) أنهم يقلدونهم ويتبعونهم فيما لا ينبغي تقليدهم ولا اتباعهم . (٢) أنهم يقعون في تشويه ما ينقلون عن هؤلاء المفكرين لأنهم يقطعون المنقول عن سياقاته. (٣) أنهم يتعثرون في استيعاب مضامين ما يقلدون فضلا عن آلياتها. (٤) أنهم يغالون في تصديق ما يقلدون إلى غاية الإعجاز والتقديس. (٥) أنهم يشددون على قرائهم في التمسك بمنقولهم بحجة أنه سبيل دخول الحداثة الوحيد. وقد حاول المقلدة محاكاة مفكري الحداثة في استشكال بعض المفاهيم الدينية على شرط العقل المجرد، كمفهومي (العبادة) و(الطاعة) فوقعوا في تناقضات فاضحة. 

 أما شأن "العبادة" فقد نسوا حقيقتين من حقائق التراث: (١) أن العبادات بقيت إلى اليوم أقرب إلى صورتها الفطرية فلم يتصرف فيها بالتغيير والتبديل تصرف الكنيسة بعباداتها. (٢) أن العبادة ذات صبغة خاتمية بحيث تنسخ غيرها ما يجعلها قادرة على التواصل والتعقل والتجديد.

 وأما "الطاعة" فقد حاولوا مقلدين أن يجعلوها سبب التخلف مع أن الإنسان لابد أن يكون مطيعا إما لنفسه أو لغيره أو لربه. والذي يتعين تغييره هو ليس الطاعة بل فساد الواقع، ذلك لأن الطاعة أكرم بها من خلق متى كان الباعث عليها هو حب التقوى.


من كتاب د. طه عبد الرحمن بؤس الدهرانية* (ف٧/ ص١٧٣-١٨٠) بتصرف

انشر تعليق

أحدث أقدم