موقف القانون الدولي من العقوبات الاقتصادية

نعرض لكم في هذه الفقرة سلسلة من الاجتهادات القضائية المتنوعة والمتعددة جغرافيا وموضوعاتيا، فمن حيث مكان إصدارها سنبسط اجتهادات قضائية صادرة عن محاكم محلية وأخرى إقليمية ودولية، أما من حيث الموضوعات فسنتطرق لشتى مجالات الحياة الاجتماعية والأسرية والتجارية والإدارية والحقوقية والدولية الصادرة عن القضائين العام والخاص.
وتبقى الغاية المنشودة من هذه الفقرة هي الرفع من الوعي القانوني والحقوقي والثقافي بالمستجدات القضائية التي تفسر الواقع على ضوء القانون. ولنا في موضع آخر في هذا الموقع التوقف عند مجمل الاجتهادات الفقهية المكملة للاجتهاد القضائي. فضلا عن ذلك، نروم المساهمة في وضع قاعدة بيانات للطلبة والباحثين والممارسين على السواء كمصدر يرجع إليها في أعمالهم وأبحاثهم. وتيسر على المتقاضين فهم آليات الاجتهاد القضائي وطرق نيل حقوقهم المشروعة.

قضايا دولية: موقف القانون الدولي من العقوبات الاقتصادية - إيران ضد أمريكا-المحكمة الدولية:



دأبت الولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها الخارجية نهج أسلوب فرض العقوبات الاقتصادية على خصومها  سواء لدواعي سياسية أو اقتصادية أو حتى عسكرية ، من جانب واحد، ودون الاستناد إلى الشرعية الدولية. الأمر الآخر الذي يدعو إلى الاستغراب هو سكوت وتواطئ  أحيانا بعض الدول في تكريس هذا النهج الذي يقوض مبدأ السلم والأمن الدوليين.

وعلى غرار مجموعة من الدول، فرضت الولايات المتحدة الامريكية عقوبات اقتصادية على الجمهورية الأسلامية الإيرانية منذ 1956 وكان أخرها عقوبات 2018. فما هو موقف القانون الدولي  من هذا التصرف؟، وما هو موقف القضاء الدولي منه؟.

أولا- موقف القانون الدولي من العقوبات الاقتصادية:

في إطار الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة يتم حل المنازعات بين الدول بالطرق السلمية، فقد نص في مادته 33  أنه يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجؤوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها.

وفي حال فشل هذه الأليات السلمية، يعرض النزاع على مجلس الأمن الذي يراعي عند تقديم  توصياته، سواء في إطار المادة 36 أو المادة 39 من الميثاق؛ أن المنازعات القانونية يجب على أطراف النزاع - بصفة عامة - أن يعرضوها على محكمة العدل الدولية وفقاً لأحكام النظام الأساسي لهذه المحكمة.  وحتى إذا كان ما وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان، فإنه يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئياً أو كليا وقطع العلاقات الدبلوماسية.

إن القانون الدولي يتحدث هنا عن وقف الصلات الاقتصادية وليس فرض عقوبات اقتصادية على دولة أخلت بالسلم والأمن الدوليين أو هددته، وثانيا، لابد أن يكون الجزاء المفروض على الدول المخلة تدريجيا وفق أحكام ميثاق الأمم المتحدة. وثالثا، يتعين أن يصدر القرار عن مجلس الأمن وليس بتفويض أو قرار انفرادي لأي من أعضائه خارج هذه المؤسسة.

ثانيا-موقف القضاء الدولي من العقوبات الاقتصادية:

في 16 تموز/يوليوز 2018، أودعت جمهورية إيران الإسلامية عريضة لإقامة دعوى ضد الولايات المتحدة الأمريكية تتعلق بمنازعة بشأن انتهاكات مزعومة لمعاهدة الصداقة والعلاقات الاقتصادية والحقوق القنصلية التي وقعها البلدان في طهران يوم 15 آب/غشت1955 ودخلت حيز النفاذ يوم 16 حزيران/يونيو 1957.

 وتقول جمهورية إيران الإسلامية إن عریضتها تتعلق بالقرار الذي اتخذته الولايات المتحدة في 8 أيار /مايو ۲۰۱۸ والقاضي باستئناف العمل بشكل كامل بمجموعة من الجزاءات والتدابير التقييدية الموجهة ضدها، بشكل مباشر أو غير مباشر، وضد الشركات التابعة لها، بل وضد رعاياها، "والإيعاز بتطبيق تلك الجزاءات والتدابي، علما بأن سلطات الولايات المتحدة كانت قد قررت قبل ذلك رفعها في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة (اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني أبرم في 14 تموز/يوليه ۲۰۱۵ بين جمهورية إيران الإسلامية والدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا والاتحاد الأوروبي).

 ودفع الطرف المدعي بأن الولايات المتحدة، بفعل جزاءات ۸ أيار مايو والجزاءات الأخرى التي أعلنت عنها، "انتهت، ولا تزال تنتهك، أحكام متعددة من معاهدة عام ۱۹۵۵ ۲۰۹ - وبناء على ذلك، التمست جمهورية إيران الإسلامية من المحكمة أن تقر وتعلن ما يلي : 
  • أن الولايات المتحدة الأمريكية، بإعلانها عن جزاءات ۸ أيار مايو والجزاءات الأخرى المبينة في العريضة والموجهة ضد إيران والإيرانيين والشركات الإيرانية، أخلت بالالتزامات التي تقع على عانقها تجاه إيران تطبيقا للمواد الرابعة (۱) والسابعة (۱) والثامنة (۱) والثامنة (۲) والتاسعة (۲) والعاشرة (1) من معاهدة عام ۶۱۹۵۵ (ب)؛
  •  أنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع حدا دون تأخير، بالوسائل التي تختارها، لجزاءات ۸ أيار/مايو؛ (ج)؛
  •  أنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تكف على الفور تمديدها بفرض الجزاءات الأخرى المعلن عنها والمبينة في هذه العريضة؛
  •  أنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحرص على الامتناع عن الإقدام على أي فعل للتحايل على القرار الذي ستصدره المحكمة في هذه القضية، وأن تقدم ضمانات بعدم تكرار انتهاكاتها لمعاهدة عام 1955؛
  •  أنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تدفع لإيران، بسبب إخلالها بالتزاماتها القانونية الدولية، تعویض کاملا تحدد المحكمة قدره في مرحلة لاحقة من إجراءات الدعوى. 
  • وأن إيران تحتفظ بحقها في أن تقدم إلى المحكمة، في الوقت المناسب، تقديرا دقيقا لمبلغ التعويض المستحق على الولايات المتحدة الأمريكية . 
 ولإقامة اختصاص المحكمة، استظهر المدعي عناصر بالفقرة ۲ من المادة الحادية والعشرين من معاهدة عام 1955. 
 وفي 16 تموز/يوليه ۲۰۱۸، قدمت جمهورية إيران الإسلامية أيضا طلبا للإشارة بتدابير تحفظية، بغرض حفظ حقوقها بموجب معاهدة عام 1955، ريثما تصدر المحكمة حكمها في جوهر القضية (انظر 73 / 4/A).  
وأفادت جمهورية إيران الإسلامية بأن الولايات المتحدة قد بدأت بالفعل في تطبيق بعض "جزاءات 8 أيار/مايو وأعلنت أن جزاءات أخرى ستنفذ في أجل يمتد بين ۹۰ و ۱۸۰ يوما ابتداء من 8 أيار/مايو ۲۰۱۸.
 ودفع المدعي بأنه، في ظل هذه الظروف، هناك خطر حقيقي ووشيك بأن يمس ضرر لا يمكن جبره حقوقها موضوع النزاع قبل أن تصدر المحكمة قرارها النهائي.
 وعقدت في الفترة من ۲۷ إلى 30 آب/أغسطس ۲۰۱۸ جلسات الاستماع العلنية الخاصة بالبت في طلب الإشارة بتدابير تحفظية الذي تقدمت به إيران. 
 وعند نهاية الجولة الثانية من الملاحظات الشفوية، أكدت جمهورية إيران الإسلامية التدابير التحفظية التي طلبت إلى المحكمة أن تشير إليها، بينما طلب وكيل الولايات المتحدة الأمريكية إلى المحكمة "أن ترفض طلب الإشارة بتدابير تحفظية المقدم من جمهورية إيران الإسلامية". 
 وفي ٣ أكتوبر تشرين الأول ۲۰۱۸، أصدرت المحكمة أمرا ينص منطوقه على ما يلي: لهذه الأسباب، فإن المحكمة تشير مؤقتا إلى التدابير التحفظية التالية:
 1-بالإجماع،
 يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تزيل، وفقا لالتزاماتها بموجب معاهدة الصداقة والعلاقات الاقتصادية والحقوق القنصلية العام ۱۹۵۰، وبالوسائل التي تختارها، أي عقبات تنشأ عن التدابير المعلن عنها في 8 أيار/مايو ۲۰۱۸ والتي تعرقل التصدير الحر إلى أراضي جمهورية إيران الإسلامية:
  •  الأدوية والأجهزة الطبية ؛
  •  المواد الغذائية والسلع الزراعية ؛
  •  قطع الغيار والمعدات والخدمات المرتبطة بها (بما في ذلك خدمات ما بعد البيع والصيانة والتصليح وأعمال الفحص اللازمة لسلامة الطيران المديني)؛
2- بالإجماع:
  •  يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تكفل منح التصاريح والرخص اللازمة وعدم إخضاع المدفوعات وغيرها من التحويلات المالية لأي قيود من حيث صلتها بالسلع والخدمات المشار إليها في النقطة (۱)؛
 3-بالإجماع:
  •  يجب على الطرفين أن يمتنعا عن القيام بأي عمل من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالته أو يزيد من صعوبة حله. 
وكانت هيئة المحكمة مؤلفة على النحو التالي: السيد يوسف، الرئيس؛ والسيدة شوي، نائبة الرئيس؛ والقضاة تومكا، وأبراهام، وبنونة، وكانسادو تريندادي، وغايا، وهانداري، وروبنسن) وكروفرد، وغيفورجیان، وسلام، وإيواساوا؛ والقاضيان الخاصان براور و ممتاز؛ ورئيس القلم کوفرور . ۲۹۹ - وبموجب الأمر المؤرخ ۱۰ تشرين الأول/أكتوبر ۲۰۱۸، حددت المحكمة يومي ۱۰ نیسان أبريل ۲۰۱۹ و ۱۰ تشرين الأول (أكتوبر ۲۰۱۹، على التوالي، أجلين لإيداع جمهورية إيران الإسلامية مذكرا ولإيداع الولايات المتحدة الأمريكية مذكرتها الجوابية .
 وبواسطة الرسالة المؤرخة 1 نيسان/أبريل ۲۰۱۹، طلب الوكيل المشارك لجمهورية إيران الإسلامية إلى المحكمة، للأسباب المبينة في تلك الرسالة، أن تمد أجل إيداع المذكرة لمدة شهر ونصف الشهر. ونظرا لعدم اعتراض الولايات المتحدة على هذا الطلب، مدد رئيس المحكمة، بموجب الأمر المؤرخ ۸ نیسان/أبريل ۲۰۱۹، حتى ۲۶ أيار / مايو ۲۰۱۹ و ۱۰ كانون الثاني (يناير ۲۰۲۰، على التوالي، الأجلين المحددين لإيداع مذكرة جمهورية إيران الإسلامية والمذكرة الجوابية للولايات المتحدة. وقد أودعت جمهورية إيران الإسلامية مذكرتها في غضون الأجل الممدد.

ختاما؛

رأينا من خلال هذا المثال، وإن لم يكن في خلدنا الدفاع عن دولة بعينها، وإنما كان غرضنا أن نبين موقف كل من القانون والقضاء الدوليين حول ما يمسى بدعة العقوبات الاقتصادية التي، فضلا عن عدم مشروعيتها، لا تميز بين الأنظمة الحاكمة والحكومات وبين الشعوب، التي تؤدي فاتورة هذه التصرفات اجتماعيا واقتصاديا، وتكرس منطقا في التعامل الدولي قائما على  سياسة العقاب الجماعي، في استرجاع لخطط المحاربين القدامى عندما يقدمون على حصار القلاع والحصون لشهور وسنوات إلى أن يجوع من في داخله فيقمون إما بالاستسلام أو الانقلاب وخيانة حكامهم.

ندرك للأسف، أن ما يتحكم في العلاقات والنظام الدوليين ليس هو القانون الدولي، ولا ميثاق الأمم المتحدة وإنما هي مكانة الدول وقوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، ومع ذلك، وفي انتظار إصلاح جذري للأمم المتحدة وميثاقها على أساس قيم الإنصاف والعدالة والكرامة بين شعوب وأمم العالم. إصلاحا يعكس، الواقع التاريخي والجغرافي والبشري لهذه الشعوب ويحفظ مدركاتها الجماعية. ندعوا، إلى تغليب منطق التعايش وقوة القانون والمشروعية بدل قانون القوة والشرعيات المزيفة والمصطنعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 المصدر:

 -تقرير محكمة العدل الدولية 1 آب/غشت 2018- 31 تموز/يوليوز2019، الجمعية العامة، الوثائق الرسمية، الدورة الرابعة والسبعون A/74/4، الأمم المتحدة، نيويورك، 2019، ص62-64.
- ميثاق الامم المتحدة لعام 1945.
-وكالات ومواقع إخبارية..



انشر تعليق

أحدث أقدم